باتت رؤوس الأموال الخليجية تذهب للعراق بوتيرة متسارعة، خلال العامين الماضيين، ما يعكس جاذبية بغداد كوجهة استثمارية جديدة بالنسبة لدول مجلس التعاون.
وبعد عقود من الزمان عانى فيها العراق من ويلات الحروب والعنف الداخلي، دخلت السعودية وقطر والإمارات بقوة من خلال استثمارات اقتصادية هائلة في بلد استطاعت إيران الحصول فيه على موطئ قدم عقب سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
والجمعة، أعلنت وزارة التخطيط في العراق توقيع 12 مذكرة تفاهم مع السعودية “لمشاريع استثمارية نوعية”، حسبما نقلت وكالة الأنباء العراقية (واع).
وقال بيان للوزارة العراقية إن مذكرات التفاهم الموقعة “جاءت بهدف تعزيز التعاون في عدد من المشروعات الاستثمارية النوعية في العراق”.
“عوائد مالية وسياسية”
لكن هذا الإقبال الخليجي الكبير على العراق يفتح باب التساؤلات بشأن الجدوى الاقتصادية من هذه الاستثمارات الضخمة في بلد عانى من عدم الاستقرار السياسي والأمني خلال السنوات الماضية.
ويرى محللون تحدثوا لموقع قناة “الحرة” أن العراق يملك فرصا استثمارية واعدة تمكن دول مجلس التعاون من تحقيق عوائد مالية وسياسية من هذه المشاريع التي تدفقت في مجالات مختلفة.
زميل أبحاث سياسة الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، حسن الحسن، قال لموقع “الحرة” إنه “كثيرا ما توظف دول الخليج الاستثمارات كأداة لتحقيق عوائد مالية وسياسية في آن واحد”.
وأضاف الحسن: “تسعى دول الخليج من خلال استثماراتها المتزايدة في قطاعي الطاقة والعقار في العراق الاستفادة اقتصاديا من السوق العراقي النامي وتوسيع رقعة نفوذها في بغداد لمزاحمة النفوذ الإيراني”.
وتتطلع حكومة العراق إلى جذب مزيد من الاستثمارات من دول المنطقة بهدف معالجة اقتصاد الدولة الذي تضرر خلال عقود من الحروب والاضطرابات، بحسب رويترز.
وفي هذا الإطار، قال أستاذ السياسات العامة بجامعة بغداد، إحسان الشمري، إن “العراق أرض خصبة للاستثمار الخارجي”، لا سيما في ظل تراجع كبير بالقطاع الاستثماري الذي تأثر بعوامل عدة، بما في ذلك الاضطرابات الأمنية والعنف الداخلي والحرب ضد تنظيم داعش، على حد تعبيره.
وفي حديثه لموقع “الحرة”، تابع الشمري قائلا: “العراق يملك فرصا استثمارية كبيرة وهذه أغلب اطروحات المسؤولين العراقيين في الزيارات الخارجية؛ لأن الدولة بحاجة لدخول الشركات الاستثمارية الأجنبية في كل مستويات الحياة العامة”.
وكانت دول الخليج العربية انزوت عن العراق بعد غزوها لجارتها الكويت، عام 1990، واستمر ذلك إلى السنوات القليلة الماضية، قبل أن تتحسن العلاقات تدريجيا بشكل ملموس خلال عهد رئيس الوزراء العراقي السابق، مصطفى الكاظمي، تحديدا بعد أن تنقل في العواصم الخليجية.
استثمارات مليارية
في عام 2022، أعلن صندوق الثروة السيادي السعودي إنشاء شركة جديدة برأس مال 3 مليارات دولار للاستثمار في العراق، وهي ضمن برنامج سعودي للاستثمار في 5 دول عربية.
وتشمل تلك الاستثمارات مجالات مختلفة، بما في ذلك البنية التحتية والتعدين والزراعة والتطوير العقاري والخدمات المالية.
وقالت الإمارات التي عززت استثماراتها في العراق، مؤخرا، إنها “حريصة” على تعزيز شراكاتها الاستراتيجية مع بغداد “في كافة المجالات”.
وقال ثاني الزيودي، الذي يشغل منصب وزير دولة للتجارة الخارجية في الإمارات: “إن هناك حرصا متبادلا على تنمية العلاقات الاقتصادية بما يخدم المصالح المشتركة، ويوفر المزيد من الفرص لمجتمعي الأعمال والقطاع الخاص في كل من الإمارات والعراق، وهو ما انعكس بشكل إيجابي في بيانات التجارة البينية غير النفطية والتدفقات الاستثمارية المتبادلة”، حسبما ذكرت وكالة أنباء الإمارات الرسمية (وام).
وكانت أبوظبي أعلنت عام 2021 عن ضخ استثمارات بقيمة 3 مليارات دولار في العراق ضمن “مسعى جديد لتعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين البلدين الشقيقين”، بحسب بيان مشترك صادر عن البلدين.
من جهتها، تدفقت الأموال القطرية في العراق بعد زيارة قام بها أمير البلاد، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، إلى بغداد في يونيو من العام الماضي.
وبعد ساعات من تلك الرحلة، اتفقت 3 شركات قطرية وهيئة الاستثمار الوطنية العراقية على تطوير مشاريع بقيمة 9.5 مليار دولار في العراق، بما في ذلك بناء محطتين لتوليد الكهرباء بقدرة إجمالية 2400 ميغاوات، بحسب رويترز.
وفي يوليو العام الماضي، دخلت قطر في صفقة ضخمة أطلقها العراق مع شركة “توتال إنرجي” بقيمة 10 مليارات دولار وذلك في مشروع يهدف لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ومن الغاز المحترق في الحقول النفطية.
ويعتقد الزميل الزائر بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، حمزة حداد، الذي يتابع الاستثمارات الخليجية في بغداد، أن هناك “قبولا سياسيا” من الجانبين لضخ هذه الأموال.
وقال حداد لموقع “الحرة” إن الدول الخليجية من جانبها، تقبلت أخيرا فكرة النظام السياسي الشيعي العراقي الذي تشكل بعد عام 2003، مضيفا أن “السنة والأكراد (داخل البلاد) قبلوا ذلك أيضا ويتعاملون معه”.
وأوضح أن تلك العوامل ساهمت في تحقيق الاستقرار الأمني الداخلي في العراق، مما انعكس عليه كوجهة جاذبة للاستثمارات الخليجية، لا سيما أن البلد يملك تعدادا سكانيا كبيرا.
منافسة إيران
ويعاني العراق من تهالك البنية التحتية الأساسية والفساد المستشري في أروقة الدولة التي يبلغ عدد سكانها 43 مليون نسمة يعيش شريحة واسعة منهم تحت خط الفقر.
ويأتي العراق في المرتبة 154 بين 180 دولة تعاني من الفساد في العالم خلال عام 2023 بعد أن تقدمت 6 مراتب مقارنة بعام 2022، بحسب لتقرير تصدره سنويا منظمة الشفافية الدولية.
ووفقا للأمم المتحدة، يعيش ثلث العراقيين تحت خط الفقر رغم الموارد النفطية الكبيرة لبلادهم التي تملك عضوية في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك).
وفي هذا الصدد، قال الكاتب والمحلل السياسي السعودي، سعد الحامد، إن “توافد رؤوس الأموال الخليجية نحو العراق جاء بعد معاناة من تدخلات دول الجوار في الداخل العراقي، مما أثر على الوضع الاقتصادي والتنموي فيها”.
وتابع حديثه لموقع “الحرة” أن “أي نجاح اقتصادي لابد من أن يأتي من خلال وضع سياسي مستقر”، مشيرا إلى أنه “في ظل الاستقرار النسبي في العراق الآن، فإن هناك العديد من الفرص النوعية التي تستفيد من السعودية ودول مجلس التعاون”.
كذلك، تتطلع السعودية لتحقيق مناخ جيد للاستثمار في دول الجوار حتى ينعكس على جميع أنحاء المنطقة، الأمر الذي يساعد الرياض أيضا على بلوغ مخرجات رؤية المملكة 2030، حسبما ذكر الحامد.
وقال الحامد أيضا إنه من خلال تلك الاستثمارات التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، “تحاول دول الخليج العربية بقدر كبير إعادة العراق لوضعه الطبيعي وكف التدخلات الإيرانية في الداخل العراقي”، لا سيما في ظل العلاقات الجيدة بين طهران والرياض الآن، على حد قوله.
ويذهب الشمري في اتجاه مماثل بقوله إن تلك الاستثمارات الخليجية تعد “جزءا من منافسة التمدد السياسي والاقتصادي الإيراني في العراق”.
اقتصاديا، تعتمد بغداد على طهران في استيراد ثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي لتشغيل محطات توليد الكهرباء المختلفة في الدولة التي تعد غير قادرة على تحقيق اكتفاء ذاتي بمجال الطاقة.
استشهد حداد بدخول الدوحة طرفا في صفقة “توتال إنرجي” الضخمة باعتبارها دليلا على الرغبة الخليجية في الاستثمار بالعراق، لاسيما أن بغداد “تحرق نفس الكمية التي تشتريها من إيران في حقولها”، على حد قوله.
وقال إن تلك الصفقة “تقلل من الضغوطات الإيرانية (على العراق) بشأن تهديداتها بقطع إمدادات الغاز”.
“تأمين المحيط” الخليجي
لكن مدى قدرة دول الخليج على منافسة النفوذ الإيراني سياسيا واقتصاديا، لا يزال من غير الواضح حتى الآن على اعتبار أن تلك الاستثمارات في بداياتها.
ويعتقد الشمري، وهو أيضا رئيس مركز التفكير السياسي في بغداد، أن قدرة دول الخليج على التأثير في السياسات العراقية “ستكون تدريجية وليست مباشرة”.
واستطرد بقوله إن “بعض الأطراف الممسكة بالقرار السياسي لا تزال لديها رؤية مغايرة قد تتمثل في استمرار النفوذ الإيراني على حساب العودة للمحيط العربي”، مردفا أن الاستثمارات “ستؤثر تدريجيا حينما تتغير الحكومات ويضعف تأثير حلفاء إيران في الداخل العراقي”.
وهنا، أشار الحسن إلى أن “استشراء النفوذ الإيراني العميق في العراق يعرقل من محاولات دول الخليج تغيير موازين القوة”.
ومع ذلك، قال إن دول الخليج “لا تستطيع التخلي بشكل كامل عن مساعيها لإيجاد حالة من التقارب الأوثق مع العراق اقتصاديا وسياسيا بغية تأمين محيطها الاستراتيجي”.