وجه زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر دعوة إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لإعادة بناء قبور أئمة البقيع.
وقال رجل الدين العراقي، في تغريدة عبر منصة “أكس”، الاثنين الماضي، “بعد ما رأينا من تغيير في سياسات المملكة العربية السعودية وما حدث من انفتاح كبير فيها ونبذ للتشدد في أروقتها على يد ولي العهد السعودي الأخ محمد بن سلمان المحترم أجد في ذلك فرصة لتذكيرهم بإعادة بناء قبور أئمة البقيع روحي لهم الفداء وخصوصاً ونحن في ذكرى تهديمها على يد بعض المتشددين آنذاك”.
وأضاف الصدر: “كان وما زال ذلك التهديم خارجاً عن السياقات الشرعية والعقائدية والاجتماعية عند كل الأعراف والأديان والعقائد والانتماءات والأفكار المعتدلة والصحيحة وخصوصاً أن من هُدمت قبورهم يمثلون الانتماءات الإسلامية والإنسانية كافة كما هو منصوص في قرآننا العظيم”.
من هم الأئمة الذين دعا الصدر لإعادة بناء قبورهم؟ وما هي مكانتهم في المذهب الشيعي خصوصاً، وعند كافة المسلمين بشكل عام؟ وكيف تم هدم قبورهم منذ مئة سنة؟
مقبرة البقيع
تُعدّ مقبرة البقيع في المدينة في السعودية من أقدم المقابر الإسلامية، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق. وتقع بجوار قبر الرسول محمد والمسجد النبوي.
تذكر المصادر التاريخية أن المقبرة تضم جثامين آلاف الصحابة والتابعين على مر القرون. وقيل إن أول من دُفن فيها كان الصحابي عثمان بن مظعون.
تضم كذلك مراقد عشرات من الأعلام الذين عاشوا زمن النبوة، من هؤلاء كل من العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، والمقداد بن الأسود، وأسامة بن زيد، فضلاً عن مجموعة من زوجات الرسول محمد، منهم عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة، وصفية بنت حيي بن أخطب.
تحظى أرض البقيع بمكانة مقدسة لدى أتباع المذهب الشيعي بفروعه الثلاثة: الاثني عشري والإسماعيلي والزيدي؛ بسبب وجود مراقد أربعة من أئمة الشيعة الكبار، هم الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي زين العابدين بن الحسين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق على الترتيب.
يؤمن كل من الشيعة الاثني عشرية والشيعة الإسماعيلية أن هؤلاء الأئمة هم “حجج الله الناطقة”، و”ورثة النبوة والعلم”. وحظيت قبورهم بتعظيم وتبجيل على مر الأجيال.
عمران المقبرة
في كتابه “بقيع الغرقد” يتتبع الباحث الشيعي محمد أمين الأميني أهم المراحل العمرانية لمراقد الأئمة الأربعة في البقيع. وقعت المرحلة الأولى في القرن الخامس الهجري على يد الوزير مجد الملك القمي الأردستاني، وزير السلطان السلجوقي بركياروق.
ثم تتابع عمران المنطقة في زمن الخليفة الناصر لدين الله العباسي في سنة 560 هجرية. وفي القرن التاسع الهجري، تم الاهتمام بعمران القباب بتوجيه من السلطان المملوكي الأشرف قايتباي، قبل أن تُكتمل الحركة العمرانية في البقيع في القرن الحادي عشر من الهجرة، على يد بعض السادة المنحدرين من نسل علي بن أبي طالب. منهم محمد علي أمين السلطنة الذي “قام بنصب الشباك المصنوع من الفولاذ على قبور البقيع”.
تؤكد كتابات الرحالة والمؤرخين المسلمين الذين زاروا الحجاز على عظمة وبهاء مراقد أئمة البقيع. فقد وصف الأندلسي ابن جبير قبري الإمام الحسن بن علي والعباس بن عبد المطلب، قائلا: “قبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق مرصعة بصفائح الصفر ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة وأجمل منظر”.
ووصف المغربي ابن بطوطة القبة الموضوعة على مرقد الإمام الحسن بقوله: “هي قبة ذاهبة في الهواء، بديعة الإحكام…”.
هدم مقابر البقيع
قامت الدولة السعودية الأولى عام 1744 في منطقة الدرعية (قرب الرياض حاليا) وتمكنت من السيطرة على منطقة نجد، قبل أن يمتد نفوذها بعد ذلك إلى نواح متفرقة من أرض الحجاز وعسير واليمن فضلاً عن جنوبي العراق.
في سنة 1803، دخل أتباع آل سعود مكة بعد حصار دام لما يزيد عن الشهرين، ثم تحركوا بعدها صوب المدينة، وقاموا بحصارها لأكثر من 18 شهرا حتى تمكنوا من اقتحامها عام 1805، وذلك بحسب ما تذكره الباحثة إلهام محمود كاظم في دراستها “وصف الرحالة المستشرق جوهان لودفيج بوركهارت لقبور البقيع”.
مدفوعين بعقيدتهم الدينية السلفية المعتمدة على أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أقدم المقتحمون على هدم جميع القباب المبنية على قبور البقيع، لا سيما قبور الأئمة الأربعة من آل البيت. عُرفت تلك الأحداث باسم “الهدم الأول”.
وصف المستشرق السويسري جون لويس بوركهات -الذي كان يزور الحجاز في تلك الفترة- في كتابه “ملاحظات عن البدو والوهابيين” ما شاهده من آثار الخراب الذي لحق بمقابر البقيع على يد القوات السعودية. فقال: “هدمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت تدل على قبور آل البيت النبوي… وأصاب القبور الأخرى نفس المصير فسُحقت وهُشمت… كان منظر هذه المقبرة حين زرتها عبارة عن أكوام مبعثرة من التراب وحفر واسعة وأنواع من الزبل من دون شاهدة على أي قبر…”.
تتفق تلك الشهادة مع ما جاء في كتاب “تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار” للمؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، الذي قال: “لمّا استولى الوهابيون على المدينة المنورة هدموا القباب التي فيها وفي ينبع ومنها قبة أئمة البقيع بالمدينة، لكنهم لم يهدموا قبة النبي. وحملوا الناس على ما حملوهم عليه بمكة وأخذوا جميع ذخائر حجرة النبوة وجواهرها حتى أنهم ملؤوا أربع سحاحير من الجواهر المحلاة بالماس والياقوت عظيمة القدر…”.
تسببت تلك الأحداث المتسارعة في عمل الدولة العثمانية لاستعادة سيطرتها على الأراضي المقدسة في الحجاز. ففي 1807، طلب العثمانيون من والي مصر محمد علي باشا، أن يحشد حملة عسكرية للقضاء على القوة السعودية.
نجح الوالي في مهمته. وبعد 7 سنوات تمت إعادة بناء بعض القباب بأمر من السلطان العثماني محمود الثاني.
في عام 1925 وقع ما عُرف باسم “الهدم الثاني”. كانت الدولة السعودية في تلك الفترة قد تمكنت من الصعود مرة أخرى، حيث تمكن عبد العزيز بن سعود من دخول المدينة ، وقام عندها بتدمير جميع القبور والقباب المرتفعة عن الأرض.
في هذه الأحداث دُمرت مراقد أئمة آل البيت، كما تم تدمير وتخريب قبور العديد من أعلام المذهب السني كالخليفة الثالث عثمان بن عفان والإمام مالك بن أنس.
اعتبر يوم الثامن من شهر شوال -الذي وافق عملية الهدم- يوماً حزيناً لدى المسلمين الشيعة على وجه الخصوص.
في ذلك المعنى يقول حسن الأمين في دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: “لم يتعرض البقيع للأذى ولرفات هؤلاء -المدفونين به- بالانتقاص والامتهان إلا في عهد الوهابيين، وبقي البقيع على حاله هذه تقريباً مع ملاحظة تعميره بين مدة وأخرى… إلى أن جاءت نكبة الوهابيين في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، فدمروا المشاهد، وأهانوا الموتى والشهداء والصالحين، وتعرضوا لبقية المسلمين بالتكفير والحرب والقتال بما لم يفعله مسلم ولا كافر في التاريخ من قبل…”.
رغم هدم قباب قبور الأئمة، بقيت تلك البقعة مقدسة لدى الطائفة الشيعية، ووقعت العديد من الأحداث التي أثارت الجدل في السنين التي تلت الهدم.
على سبيل المثال، في فبراير سنة 2009، شهدت مقابر البقيع اشتباكات عنيفة بين مئات من الزوار الشيعة وقوات الأمن السعودية، وتم إلقاء القبض على عشرات الزوار، بتهمة مخالفة تعليمات الزيارة وإثارة الشغب.
على أثر تلك الأحداث تظاهر مئات من السعوديين الشيعة في منطقة القطيف التي تتركز فيها الأقلية الشيعية في السعودية، وانتهى الأمر بالإفراج عن جميع المعتقلين.