في قصة ملهمة تجسد صمود الأمومة في وجه التحديات، افتتحت امرأة عراقية مركزا مجانيا لرعاية أطفال مرضى التوحد، ساعية لتوفير بيئة داعمة لأطفالها المصابين بهذا المرض، وأصبحت مبادرتها الإنسانية رمزا للأمل والصمود ومصدر إلهام للعديد من الأشخاص في العراق والعالم العربي.
وتسرد صاحبة المركز شيماء الهاشمي (45 عاما) وهي أم لطفلين مكفوفين ومصابين بطيف التوحد، في حديثها لوكالة الأنباء العراقية، أن علامات التوحد ظهرت على آية (17 عاما) بعد بلوغها أربع سنوات، كانت تمشي بصورة عادية وتكرر الكلمات التي تقال لها، ثم بدأت تدور حول نفسها وتمشي على أطراف أصابعها، وأحيانا، لا تستجيب لمن يناديها، وكانت أمها تعلل سبب غرابة تصرفاتها بسبب عدم قدرتها على الرؤية، إذ وُلدت مكفوفة.
لم تتخيل شيماء أن ابنتها ستكون مصابة بالتوحد، خاصة وأن أخاها الأكبر منها لم تظهر عليه أي من تلك الأعراض، بحزن تقول “بكيت كثيرا، فررت بها دون هوادة إلى كل أطباء بغداد، بدلا من السير بها إلى المتنزهات ومدن الألعاب مثل أقرانها، أصبح الأطباء ملجأ أملها الوحيد، ثم وبعد عام تم تشخيصها بالتوحد. لم أدرك وقتها ما سيجب علي كأم أن أفعله”.
كانت شيماء قد حصلت على عمل لها في وزارة التجارة، قبل أن تقرر تركه بعد أسبوع واحد على معرفتها بإصابة ابنتها، تقول “فضّلت وضع كل شيء خلفي، الحياة والعمل والأحلام، والتركيز على رعاية ابنتي بأكبر قدر ممكن”. وهذه الفكرة الحزينة، فكرة أن صغيرتها لن تتعلم أو تدخل المدرسة، كانت مسببا كبيرا للألم في روح شيماء. التعامل لم يكن سهلا، والتدريب والخطوات كلها مبتدئة.
وأوضحت أن المجتمع يريد من الأم أن تكون سوبر هيرو (بطلة خارقة)، لا تخطئ، لا تنهار، ستكون الملامة في كل شيء، مهما حاولت استشارة أحدهم أو طلبت معونة، بحزن توضح أنها لم تكن تعلم من تستشير، كما أن أغلب الأطباء الذين تراجعهم يمنحونها أدوية وعقاقير فقط، تزيد من سوء حالة الصغيرة.
تقول شيماء “حاولت إدخال ابنتي لمعهد خاص بالتوحد، وكانت تعود بانتكاسة جديدة كل يوم، شعرت أني أضيع وأفلت ابنتي من يدي، واجهت التنمر والمعاملة السيئة والعنف اللفظي والجسدي من قبل مدرساتها، مما جعلها ترفض دخول أي مكان غير البيت”.
ليس في العراق سوى معهد حكومي واحد معني بالتوحد، والعشرات من المعاهد الأهلية المكلفة ماديا، لذا قررت الأم تولي مهمة رعاية ابنتها في المنزل فقط، حيث حاولت من خلال الورش التدريبية والقراءات المتكررة والحديث المتواصل مع أطباء خارج العراق، بدأ الفهم بكيفية احتواء آية، تقول إنها حتى بعد ذلك القرار، استقبلت الكثير من عبارات اللوم والابتزاز العاطفي والاتهام بإهمال ابنتها، على الرغم من دعم زوجها.
وتابعت “أعتقد أن المرأة في مجتمعنا ولو امتلكت عشر أياد، لن تحمي نفسها من عقاب المجتمع، إذ بعد قرار رعاية ابنتي في المنزل، أصبح المجتمع يتهمني بالتقصير مع ولدي البكر وزوجي، يمنحني الشعور المستمر بالتأنيب وجلد الذات، لكني كنت أحلم برؤية ابنتي سعيدة وتبتسم، هذا كل ما كنت أطمح له”.
تجربة شيماء مع ابنتها جعلتها تستبق تشخيص ابنها الثالث محمد (11 عاما) فحاولت التعامل معه بنفس الطريقة حالما لاحظت عليه نفس أعراض آية الأولية.
استجابة محمد لطرق رعاية والدته، كانت حاملة لنتائج أسرع وأكثر ضمانا، صار يساعد أخته، ويحتضنها حينما يهاجمها القلق، مُنحت شيماء البهجة والأمل، لكن عقبتها، وكما تبين، كانت هي تطور حالة المصابين بالتوحد إلى الأفضل، وبقاء المجتمع واقفا في مكانه بنظرته القاسية تجاههم، الكثير من المواقف الحزينة صادفتها فيما تسير مع ولديها، نظرات وعبارات المارين، رفضهم لعب أولادهم مع صغيريها، وتفاصيل كثيرة، ساهمت بجعل شيماء تفكر بإنشاء صفحة طوعية للتوعية بطيف التوحد، تقول إنها لم تتردد بصنع الصفحة.
وأردفت أن الصفحة ستكون بمثابة دعم جماعي ونصائح متبادلة وخبرات نحتاجها جميعا كآباء لذوي التوحد، ولم تكن تنشر صور ولديها في صفحتها، بل تكتفي بنشر فيديوهات تصورها في أستوديو وتدفع الكثير من المال فقط لإيصال المعلومات بشكل مجاني، تبين بحديثها أنها فكرت كذلك بنساء أخريات وأمهات قد لا يلاقين الدعم. وأضافت “أحيانا تستبد بي ضغوط هائلة وأغرق في بكاء يمتد لساعات حينما أشعر أن التواصل بيني وبين ابنتي آية صار بينه حاجز بعدما ترفض إحدى طرقي التعليمية، حينها أشعر أن علي البدء من الصفر”.
حلمها واضح، وواحد، أنه مرتبط بأمومتها، أن ترى ولديها باستطاعتهما الاعتماد على نفسيهما مستقبلا، هذه الفكرة دفعتها إلى فكرة إنشاء مكان تستطيع تحويله إلى مؤسسة مجانية معنية بذوي التوحد. وتقول إنها وبعد ثلاث سنوات من المناشدات والتوعية في صفحتها، أكد حدسها لها أن الدعم هذا من الممكن تحويله إلى شيء على الواقع، أن تلمس الصغار فعلا، وتسير بهم، تعلمهم وتوعي ذويهم وجها لوجه.
افتتحت شيماء الهاشمي مؤسسة “مميزون” المجانية لذوي التوحد، وهي الأولى من نوعها في العراق. يستقبل المركز يوميا العشرات من الحالات، ويقدم بيئة مريحة للأطفال مع تنوع في البرامج بوجود مدربات هنّ في الحقيقة أخوات أو أمهات للأطفال ذوي التوحد، وتم اختيارهن بعد اختبارات دقيقة لضمان احترافيتهن في التعامل مع مختلف الحالات.
ونوهت بأنها تركت عملها يوما من أجل صغيرتها، لذا افتتحت اليوم مقرا مرتبطا بولديها، تقولها بضحكة “ابتكرت مكان عمل يستقبل ولدّي ويتقبل حالتهما الصحية. مكان لا أرى فيه نظرات تشعرني أو تشعر الأمهات العاملات بالسوء”.
وأضافت “أشعر بتصالح هائل مع توحد ولديّ وسعيدة بالمرحلة التي وصلاها حيث ساعدا نفسيهما كثيرا، وهما يعتمدان على ذاتهما بنسبة 70 في المئة لآية، و90 في المئة لمحمد الذي يعزف على البيانو ويغني”. وتابعت “ليست لدي أحلام شخصية، كل حياتي مرتبطة بهما وأنا ممتنة لوجودهما في حياتي حيث علماني الكثير، حلمي هو أن يكونا قادرين كليا على حماية نفسيهما من وحشية البعض في المجتمع، وأن يستمرا بحب الناس مع كل شيء”.